فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (105):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان المانع لهم من قبول الهدى كون ذلك تسفيهًا لآبائهم، فيعود ضررًا عليهم يُسبَّون به على زعمهم، أعلم الله المؤمنين أن مخالفة الغير في قبول الهدى لا تضرهم أصلًا، بأن عقب آية الإنكار عليهم في التقيد بآبائهم لمتابعتهم لهم في الكفر بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} أي عاهدوا ربهم ورسوله على الإيمان {عليكم أنفسكم} أي الزموا هدايتها وإصلاحها؛ ولما كان كأنه قيل: إنا ننسب بآبائنا، وننسب إليهم، فربما ضرتنا نسبتنا إليهم عند الله كما جوز أكثم بن الجون الخزاعي أن يضره شبه عمرو ابن لحي به حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «لا، إنك مؤمن وهو كافر»- كما في أوائل السيرة الهشامية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان ذلك ربما وقف بأحد منهم عن الإسلام قال: {لا يضركم من ضل} أي من المخالفين بكفر أو غيره بنسبتكم إليه ولا بقول الكفار: إنكم سفهتم آراءكم، ولا بغير ذلك من وجوه الضرر، وحقق هدايتهم بشارة لهم بأداة التحقيق فقال مفهمًا لوجود الضرر عند فقد الهداية: {إذا اهتديتم} أي بالإقبال على ما أنزل الله وعلى الرسول حتى تصيروا علماء وتعملوا بعلمكم فتخالفوا من ضل، فإن كان موجودًا فبالاجتهاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الطاقة، فإن لم يستطع رده انتظر به يوم الجمع الأكبر والهول الأعظم، وإن كان مفقودًا فبمخالفته في ذلك الضلال وإن كان أقرب الأقرباء وأولى الأحباء، وإلا كان الباقي أسفه من الماضي، وقد كان لعمري أحدهم لا يتبع أباه إذا كان سفيهًا في أمر دنياه عاجزًا عن تحصيلها ولا يتحاشى عن مخالفته في طريقته بل يعد الكدح في تحصيلها والتعمق في اقتناصها وحسن السعي في تثميرها ولطف الحيلة في توسيعها من معالي الأخلاق وإصالة الرأي وجودة النظر على أن ذلك ظل زائل وعرض تافه، فكيف لا يخالفه فيما به سعادته الأبدية وحياته الباقية ويأخذ بالحزم في ذلك ويشمر ذيله في أمره ويسهر ليله في إعمال الفكر وترتيب النظر فيما أمره الله بالنظر فيه حتى يظهر له الحق فيتبعه، وينهتك لديه الباطل فيجتنبه، ما ذاك إلا لمجرد الهوى، وقد كان الحزم العمل بالحكمة التي كشفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» وروى مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا- وقال ابن ماجه: ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا- فإن لو تفتح عمل الشيطان»، وفي بعض طرق الحديث: «ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» يعني: والله! اعمل عمل الحزمة فأوسع النظر حتى لا تترك أمرًا يحتمل أن ينفعك ولا يضرك إلا أخذت به، ولا تدع أمرًا يحتمل أن يضرك ولا ينفعك إلا تجتنبه، فإنك إن فعلت ذلك وغلبك القضاء والقدر لم نجد في وسعك أمرًا تقول: لو أني فعلته أو تركته، ولكنك تقول: قدر الله وما شاء فعل، بخلاف ما إذا لم تنعم النظر وعملت عمل العجزة فإنك حتمًا تقول: لو أني فعلت كذا وكذا، لأن الشيطان يفتح لك تلك الأبواب التي نظر فيها الحازم، فيكثر لك من «لو» لأنها مفتاح عمله، وليس في الآية ما يتعلق به من يتهاون في الأمر بالمعروف كما يفعله كثير من البطلة؛ روى أحمد في المسند عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في أمر رآه: يا أبا عامر! ألا غيرت؟ فتلا هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم» وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحارث وأحمد بن منيع وأبو يعلى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه.
قال البغوي: وفي رواية: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لكم. والله الموفق.
ولما حكم الله تعالى- وهو الحكم العدل- أنه لا ضرر عليهم من غيرهم بشرط هداهم، وكان الكفار يعيرونهم، قال مؤكدًا لما أخبر به ومقررًا لمعناه: {إلى الله} أي الملك الأعظم الذي لا شريك له، لا إلى غيره {مرجعكم} أي أنتم ومن يعيركم ويهددكم وغيرهم من جميع الخلائق {جميعًا فينبئكم} أي يخبركم إخبارًا عظيمًا مستوفى مستقصى {بما كنتم تعملون} أي تعمدًا جبلة وطبعًا، ويجازي كل أحد بما عمل على حسب ما عمل.
ولا يؤاخذ أحدًا بما عمل غيره ولا بما أخطأ فيه أو تاب منه، وليس المرجع ولا شيء منه إلى الكفار ولا معبوداتهم ولا غيرهم حتى تخشوا شيئًا من غائلتهم في شيء من الضرر. اهـ.

.قال الفخر:

لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} [المائدة: 104] فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه، فلا يضركم ضلالتهم وجهالتهم، فلهذا قال: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة، كما قال تعالى: {إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ذكروا في سبب النزول وجوها:
أحدها: ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف، عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض، فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى، وثانيها: أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم.
فقيل لهم: عليكم أنفسكم، وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين، وثالثها: أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك، والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم: {تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} [المائدة: 104] ذكر تعالى هذه الآية، والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة، بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم، وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية، اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر.
وقال ضمرة بن ربيعة: تلا الحسن هذه الآية، وقال: الحمد للّه لها والحمد للّه عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جانبه منافق يكره عمله.
وقال بعضهم: معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة الله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.
أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية: إذا أمرتم ونهيتم.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر: إنكم تقرؤن هذه الآية {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ماهي وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيروه عمّهم اللّه بعقاب، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فيقول أحدكم: عليّ نفسي، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب، ثم ليدعنّ اللّه خياركم فلا يستجيب لهم» يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول اللّه إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ عملنا به ولا من المنكر شيء إلاّ إنتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبدًا.
فقال عليه السلام: «فمروا بالمعروف فإن لم يقبلوا به كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله» وقيل: معنى الآية: عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
قال شقيق بن عقد: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه قال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}.
فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم.
وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعًا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعًا وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
قال أبو أميّة السمعاني: سمعت أبا ثعلبة [الخشني] عن هذه الآية {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
فقال أبو ثعلبة: سألت عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت دينًا موثرًا وشحًا مطاعًا وهوىً متبعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أيامًا أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة اللّه لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل».
قالوا: يا رسول اللّه كأجر خمسين عاملًا منهم؟
قال: «لا بل كأجر خمسين عاملًا منكم».
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في أهل الأهواء.